أهمية الخليج الاستراتيجية- صراعات تاريخية وآفاق تنموية واعدة
المؤلف: محمد الساعد09.06.2025

لقد كانت منطقة الخليج العربي مسرحًا للعديد من الصراعات والحروب الطاحنة على مر العقود الأربعة الماضية، بدءًا من الحرب العراقية الإيرانية المدمرة، مرورًا بحرب تحرير الكويت، ثم غزو العراق، وصولًا إلى المواجهة الإيرانية الإسرائيلية الراهنة، بالإضافة إلى سلسلة لا تنتهي من الاشتباكات المحدودة وتبادل إطلاق الصواريخ بشكل متكرر.
إن هذه الأحداث المتلاحقة تثير تساؤلات جوهرية حول الأسباب الحقيقية وراء هذه الدوامة من العنف، وهل ثروات الخليج النفطية هي المحرك الوحيد لهذه الحروب؟ الإجابة بكل تأكيد هي "لا"، فالتاريخ يشهد على أن الغزاة البرتغاليين والبريطانيين والعثمانيين قد اجتاحوا منطقة الخليج قبل ظهور النفط واكتشافه في أراضي دول الخليج بأربعة قرون.
فعلى سبيل المثال، وصل البرتغاليون إلى شواطئ الخليج العربي في عام 1506م، أي قبل أربعة قرون كاملة من استخراج النفط بشكله التجاري في المنطقة، وكان هدفهم الأساسي هو فرض سيطرتهم الكاملة على طرق التجارة البحرية الحيوية التي تربط الشرق بالغرب، والتي كانت تمر عبر مياه الخليج العربي، ليس هذا فحسب، بل سعوا أيضًا إلى إيجاد طريق بحري جديد ومباشر إلى الهند وبلدان شرق آسيا، بعيدًا عن السيطرة الخانقة التي فرضها العثمانيون على الطرق التجارية التقليدية، لقد كان هذا صراعًا محمومًا على النفوذ الاقتصادي والتوسع الجغرافي، قبل أن يكون مجرد صراع على الثروة النفطية.
إن الموقع الاستراتيجي المتميز للخليج العربي، باعتباره نقطة وصل حيوية بين الشرق والغرب، وكونه ممرًا رئيسيًا لخطوط الملاحة البحرية العالمية، كان ولا يزال من أهم العوامل الحاسمة في استمرار الصراع في منطقة الخليج العربي منذ أكثر من خمسة قرون، وحتى يومنا هذا، وحتى لو افترضنا جدلًا أن منطقة الخليج العربي لم تكتشف فيها احتياطيات هائلة من النفط والغاز، فإن أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية ستبقى راسخة وثابتة، فهو ممر تجاري بالغ الأهمية يربط بين قارتي آسيا وأفريقيا، ويوفر وصولًا سريعًا وسهلًا إلى البحار المفتوحة، مما يتيح للدول المطلة عليه فرصًا استثنائية للتجارة مع جميع دول العالم الأخرى.
ولعلنا نتذكر جيدًا أن الألمان والعثمانيين قد بذلوا جهودًا مضنية لبناء خط سكة حديد طموح يبدأ من قلب ألمانيا وينتهي في مدينة البصرة المطلة على الخليج العربي، بهدف الوصول إلى المحيط الهندي ومنه إلى الدول المطلة عليه، لقد كان هذا المشروع يمثل تحالفًا استراتيجيًا يهدف إلى تعزيز التجارة وتسهيل حركة البضائع عبر خطوط ممتدة، ولكن لسوء الحظ، فشل هذا المشروع الطموح بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أجهضت هذه الفكرة وأطاحت بها إلى غير رجعة.
أما الأهمية العسكرية الجوهرية لمنطقة الخليج العربي، فتتجلى بوضوح في كونها منطقة فاصلة وحيوية بين القوى المتصارعة في العالم، وخاصة بين الشرق والغرب، وقد برزت هذه الأهمية بشكل مكثف خلال فترة الحرب الباردة بين القوتين العظميين، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، منذ الخمسينيات وحتى بداية التسعينيات الميلادية، وهي تتجلى بوضوح في الوقت الراهن من خلال التنافس الصيني الأمريكي المحموم، هذه الميزة الاستراتيجية الهامة منحت وستمنح دول الخليج القدرة على تعزيز مكانتها وأدوارها الإقليمية والدولية، وكذلك المناورة بذكاء والاستفادة القصوى من علاقاتها المتوازنة مع جميع الأطراف.
إن الحرب الدائرة حاليًا بين إسرائيل وإيران تثير الكثير من التساؤلات المقلقة، هل المنطقة مقبلة على المزيد من الحروب والنزاعات المدمرة؟ وهل ستنعكس هذه الحروب سلبًا على مستقبل شعوبها تنمويًا واقتصاديًا؟ وهل بالإمكان استبدال الصراعات العسكرية بالتعاون الاقتصادي المثمر، كما دعا إلى ذلك ولي العهد السعودي، بدلًا من التنافس العسكري المحموم، الذي أدى وسيؤدي حتمًا إلى المزيد من الحروب والدمار وظهور الدول الفاشلة؟
لا شك على الإطلاق أن الاستمرار في التفكير بعقلية القرون الماضية البالية سيؤدي حتمًا إلى المزيد من الحروب والنزاعات، كما أن النظر إلى دول الخليج على أنها مجرد بنوك مالية ضخمة هو تصور خاطئ تمامًا، يجب فهم العقلية الخليجية بعمق، وهي عقلية تجار وتنمويين حقيقيين، ولا يوجد دليل أقوى على ذلك من العواصم والمدن الحديثة والمتطورة في دول مجلس التعاون الخليجي، التي تضاهي اقتصاداتها اقتصادات دول بأكملها.
من هنا يمكن فهم الأهمية القصوى لموقع الخليج العربي في الاستراتيجية الدولية، وفي تفكير السياسي المحنك، سواء في الغرب أو الشرق، الذي يسعى جاهدًا لبناء علاقات ناجحة ومثمرة مع دول مجلس التعاون الخليجي، التي استطاعت استيعاب وفهم هذه المعادلة المعقدة وتوظيفها بذكاء لصالح التنمية الشاملة وتطوير اقتصاداتها المتنوعة، وهو أمر أضحى الأساس المتين في نجاحها وازدهارها، فهي لم تعتمد بشكل كامل على ثرواتها الهائلة من النفط والغاز فقط، بل حولت موقعها الجيوسياسي الفريد إلى قوة دافعة هائلة لتنميتها وتقدمها المستمر.